الأحد، 19 سبتمبر 2010

أسس التعامل مع القرآن


أسس التعامل مع القرآن الكريم
بقلم: وصفي عاشور أبو زيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستمنحه ونستهديه ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون، وبعد.

فمن المقرر أن القرآن الكريم له أهمية بالغة في حياتنا؛ فهو شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وهو كتاب خالد، ووحي مقدس، ونص معجز، ودستور نظام، ومنهاج حياة، بلسم ناجع، ونبراس مضيء، ودليل هادٍ، ونورٌ مشعٌّ لا يخفت نوره حتى قيام الساعة، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد.

وإن التعامل مع القرآن الكريم واجب على كلِّ مسلم ومسلمة؛ قراءةً وحفظًا، وتدبرًا وتفهمًا، وعملاً وتطبيقًا، واستشفاءً وتحكيمًا فيما شجر بين المسلمين، غير أن ظروفًا حياتية كثيرة حالت وتحول بيننا وبين الاهتمام بهذا الكتاب: قراءةً، وفهمًا، وتدبرًا، وعملاً، وجهادًا، وتبليغًا؛ حيث المشاغل الحياتية، والهموم الأسرية، والأوجاع المجتمعية، والمصائب العالمية التي لا تدع للإنسان فرصة للعيش السعيد، أو القرار الهادئ المكين.

ولا مخرج لنا أو نجاة من كلِّ هذه المدلهمات إلا بالرجوع إلى كتاب الله، فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للداعية وللفقيه ولكل مسلم؛ لأنه كتاب الإسلام الخالد الذي نزلت السنة لتبينه وتوضحه، وتخصص عامه أو تقيد مطلقه وتبين مبهمه.. إلى آخر ما ذكره الأصوليون:
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) (النحل).

ولا يصح أن يكون المسلم داعية وصلتُه ضعيفة بهذا الكتاب في كل جانب من جوانبها، فهو داعية إلى الله تعالى، وإنما نعرف الله من خلال كلامه، فكيف يدعو إلى الله من لا يفقه كلام الله، أو لا يدرك حكمه وأسراره، أو لا يعرف كيف يتعامل مع القرآن الكريم؟.

لذلك كان لزامًا علينا أن نضع أهم المعالم والأسس التي من خلالها يمكننا أن نتعامل مع هذا الكتاب الكريم.

الأساس الأول: معرفة قيمة القرآن الكريم:
أول أساس من هذه الأسس أن نعرف قيمة القرآن الكريم حتى ننزله منزلته، ونقدره التقدير اللائق به، والإنسان مفطور على الاهتمام بالشيء إن كانت له قيمة، ولن يهتم بشيء إلا إذا عرف قيمته ووقف على أهميته.

1- القرآن كلام الله تعالى، فهذا الكتاب ليس كلام عالم من العلماء، ولا داعية من الدعاة، ولا فقيه من الفقهاء، إنما هو كلام خالق الخلق، ورازق العالمين، من بيده الخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) (النحل).

وكل منا تستهويه أسماء علماء بعينهم، نقتني كتبهم، ونقرأ كلامهم، ونحفظ مقولاتهم، ونجعل إيرادها بين يدي حديثنا مع الناس من قبيل الحجة وإقناع الآخرين، فما بالك بكلام "الله" تعالى، أليس جديرًا بأن يُقتنى ويُحفظ عن ظهر قلب، ويُتدبر ويُتفهم ويُعمل به؟!.

2- القرآن هداية للمتقين، فمتى أخلص المسلم للقرآن أعطاه الله من هذا الكتاب وهدايته ونوره وموعظته وبشراه ما ينعم به المؤمنون، وينتفع به المتقون﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2) (البقرة)، ﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة: من الآية 97)، ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: من الآية 46)، ﴿هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) (الأعراف)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57)(يونس).

3- القرآن يحتوي على ما جاءت به الكتب السابقة ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)(البقرة)، ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (آل عمران: من الآية 3)، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ (المائدة: من الآية 48)، ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) (الأحقاف).

4- القرآن الكريم له أسماء تنبئ عن مكانته وقيمته، فهو الذكر الحكيم﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) (آل عمران)، وهو الفرقان﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: من الآية 185)، وهو النور﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) (المائدة).

5- القرآن هو المصدر الوحيد الذي يمكن أن نثق به في قصص السابقين وعالم الغيب والشهادة، فعن الحارث الأعور قال: "مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليٍّ، فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة" فقلت: ما المخرج منها يا رسول اللّه؟ قال: "كتاب اللّه؛ فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار ضمه اللّه، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله اللّه، وهو حبل اللّه المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا يزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم" (1).

6- القرآن الكريم فيه عز الأمة وذكرها ومجدها﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) (الأنبياء)، قال العلامة السعدي﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- كتابًا جليلاً وقرآنا مبينًا ﴿فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم، إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها، وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي، ارتفع قدركم، وعظم أمركم، ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف لا ترضون ولا تعملون على ما فيه ذكركم وشرفكم في الدنيا والآخرة، فلو كان لكم عقل، لسلكتم هذا السبيل، فلما لم تسلكوه، وسلكتم غيره من الطرق، التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما، علم أنه ليس لكم معقول صحيح، ولا رأي رجيح، وهذه الآية، مصداقها ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن من الصحابة، فمن بعدهم، حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر، والصيت العظيم، والشرف على الملوك، ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسًا، ولم يهتدِ به ويَتَزَكَّ به، من المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا بالتذكر بهذا الكتاب" (2).

7- تلاوة القرآن نور للقلوب ونور للبيوت ، فعن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب" (3).

وعن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" (4).

ومن فقه الإمام مسلم في هذا الحديث أن أورده في باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، وفيه دعوة إلى الصلاة في البيت، وفي الصلاة قراءة للقرآن، ولا يخفى ما في ذلك من فوائد، منها: تحقيق القدوة للأبناء بإقامة الصلاة، وتلاوة القرآن في البيوت لطرد الشياطين، وتذكير الأهل بالفريضة، وصبغ البيت بصبغة الإسلام.

8- القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي لم تمتد إليه يد بالتحريف ولا بالتغيير:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) (الحجر)، فكل الكتب السماوية تم تحريفها، وتبدل وتغير كثير منها إلا القرآن الكريم الذي وعد الله بحفظه، فحُفظ في صدور هذه الأمة بوعد الله، وفشلت كل المحاولات التي أرادت أن تحرِّف القرآن أو تغير فيه، بل أعجز القرآن الكريم كل من حاول أن يقلده أو يأتي بمثله، أو سورة من مثله.

9- القرآن له أوصاف كلها تدل على مكانته وعظمته، فهو موصوف بالبرهان﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) (النساء).

وموصوف بالرحمة والهدى البشرى﴿وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) (الأنعام).

وموصوف بالبصيرة﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) (الجاثية).

وموصوف بالكريم﴿إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) (الواقعة).

وموصوف بالحق﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ﴾. (الرعد: من الآية1).

كما أنه موصوف بـ: الحكيم، والذكرى، والشفاء، والعزيز، والعظيم، والمبارك، والمبين، والمجيد، والمفصل، وغيرها من صفات.

10- القرآن كتاب للبشر جميعًا، فليس القرآن مقصورًا على قوم دون قوم، ولا زمان دون زمان، ولا مكان دون مكان، إنما هو كتاب الإنسانية في كلِّ زمان ومكان؛ ولذلك نجد فيه نداءات متنوعة يخاطب فيها الناس، من ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) (البقرة)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)(البقرة)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) (النساء)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ (النساء: من الآية 170)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) (النساء)، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾(الأعراف: من الآية 158)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) (يونس)،﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) (يونس)، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) ( يونس).

وغير ذلك من نداءات، وقد وجدتُ هذا النداء متكررًا في القرآن (19) مرة.

كما أن هناك نداءً آخر يقول﴿يَا بَنِي آَدَمَ﴾، ومنه قوله تعالى﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) (الأعراف)، ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) (الأعراف)، ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) (يس).

وهذه هي المرات التي تكرر فيها هذا النداء في القرآن الكريم: (4) مرات.

11- القرآن يشتمل على شئون الحياة جميعًا؛ فهو ليس كتاب مواعظ فقط، ولا تشريع فقط، ولا اقتصاد فقط، ولا تربية فقط، ولا ثقافة فقط، وإنما هو كتاب شامل تحدّث في كلِّ الأمور، وبين كل الشئون، قال تعالى﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) (يوسف)، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)(النحل)، ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً﴾ (الأنعام: من الآية 114).

ولقد قال سيدنا ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى"، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها‏".

الأساس الثاني: معرفة مقاصد القرآن الكريم:
والأساس الثاني للتعامل مع القرآن الكريم أن نفهم مقاصده وندرك غاياته، ونقف على أهدافه وما يرمي إلى تحقيقه في النفس والمجتمع، فمعرفة مقاصد القرآن ابتداءً تجعل لدى الإنسان تصورًا عامًّا عن موضوعات القرآن الكريم، ومجالات اهتمامه، والموضوعات التي يتناولها.

وقد ذكر الإمامُ محمد رشيد رضا صاحب المنار في كتابه: "الوحي المحمدي"؛ عشرة مقاصد للقرآن الكريم، ونَحَى بها نَحوًا يتعلق بالإصلاح التربوي، وهي على النحو التالي:
1- بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة: الله، البعث، العمل الصالح.
2- بيان ما جهل البشر من أمور الرسالة والنبوة ووظائف الرسل.
3- إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام.
4- الإصلاح الإنساني الاجتماعي السياسي الوطني.
5- تقرير مزايا الإسلام العامة في التكاليف الشخصية.
6- بيان حكم الإسلام السياسي الدولي: نوعه وأساسه وأصوله العامة.
7- الإرشاد إلى الإصلاح المالي.
8- إصلاح نظام الحرب ورفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير والشر.
9- إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية.
10- تحرير الرقبة (5).

وذكر شيخنا العلامة د. يوسف القرضاوي سبعة مقاصد للقرآن الكريم تتداخل كثيرًا وتتماس مع ما ذكره رشيد رضا. وهي:
1- تصحيح العقيدة والتصورات للألوهية والرسالة والجزاء.
2- تكريم الإنسان ورعاية حقوقه.
3- توجيه الناس إلى حسن عبادة الله وتقواه.
4- الدعوة إلى تزكية النفس البشرية.
5- تكوين الأسرة وإنصاف المرأة.
6- بناء الأمة الشهيدة على البشرية.
7- الدعوة إلى عالم إنساني متعاون (6).

ويتناول الشيخ كل عنصر أو مقصد من هذه المقاصد من خلال معالم وأسس وعوامل تصب في تحقيق هذا المقصد يمكن مراجعتها في الكتاب.

ومن أفضل التفاسير التي نعرف من خلالها مقاصد القرآن ومقاصد السور هو "في ظلال القرآن" للأستاذ سيد قطب، ومن التفاسير التي تلحظ فيها البعد المقاصدي أيضًا: تفسير التحرير والتنوير للإمام محمد الطاهر بن عاشور، وتفسير العلامة عبد الرحمن السعدي، رحمهم الله ورضي عنهم.

والقرآن نفسه يتحدث عن مقاصده وغاياته:
- فهو للهداية﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) (المائدة).

- وهو لإخراج الناس من الظلمات إلى النور﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) (إبراهيم).

ـ وهو لسعادة الإنسان﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2) (يس).

ـ وهو كتاب لإعزاز الأمة﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) (الأنبياء)، ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)(الزخرف).

والمتتبع للقرآن الكريم يجد من ذلك مقاصد كثيرة ومتنوعة، وحسبنا أن نعرف أن الوقوف على مقاصد القرآن الكريم له دور كبير في التدبر والتفهم لما يرمي إليه القرآن في كلِّ سورة من سوره، وفي كلِّ قصة من قصصه، وفي كلِّ شوط من أشواطه.

الأساس الثالث: معرفة الله تعالى والقرب منه:
وذلك أن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ولن يتأتى لنا فهم كلام الله أو تتشرب نفوسنا بركاته وخيراته وفتوحاته إلا إذا اقتربنا من قائله سبحانه وتعالى؛ فننظر إلى كلام الله عزَّ وجلَّ من الملكوت الأعلى، عندئذ نستطيع أن نفهم مرادات الله من كلامه، ومقاصده من تشريعه، وغايته مما يُحَلل أو يُحَرِّم.

والطريق الموصلة إلى معرفة الله تعالى كثيرة ومتعددة، وليست محصورة في عدد معين، ويمكنني أن أقسِّم هذه الطرق إلى طريقين:
الأول: طريق الكتاب المنظور؛ ذلك لأننا إذا أمعنا النظر في هذا الكون الواسع الفسيح؛ لوجدنا أن كل شيء فيه دليلٌ واضح على وجود الله، وطريق إلى معرفته سبحانه، وإذا تجاوزت نظرتُنا النظرةَ المادية الظاهرية للأشياء، تلتْها نظرة ثاقبة وفاحصة تصل إلى بواطن الأشياء؛ إذ إن هناك فرقًا بين النظرة المادية التي تنظر إلى الطبيعة بما هي عليه ولا تتخذها وسيلة إلى معرفة الله تعالى، والنظرة الإلهية الثاقبة التي تتجاوز المعرفة الظاهرية للطبيعة وتصل إلى المعرفة الباطنية، أي معرفة المبدأ والخالق، وذلك عن طريق الإمعان في النظم والسنن الموجودة في هذا الكون، والدالة على وجود خالق لها.

إذن فطُرق معرفة الله تكون بعدد الظواهر الطبيعية، ابتداءً من الذرة وانتهاءً بالمجرة؛ لذا فإننا نجد رجالاً لدعوة ودعاة التوحيد يركِّزون في معرفته سبحانه على دعوة الناس إلى النظر في الكون والإمعان في النُظُم والسنن الموجودة فيه.

والجدير بالذكر أن طريقة القران الكريم في الدعوة إلى معرفة الله تعالى هي هكذا، وفيما يلي نذكر بعض النماذج على حسب المثال:
1- ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101) (يونس).

2- ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ والْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)(البقرة).

3- ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ (العنكبوت: من الآية 20).

4- ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) (الروم).

5- ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) (الطارق).

6- ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) (الغاشية).

7- ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) (آل عمران).

إلى غيرها من الآيات الكثيرة التي تدعو إلى التفكر والتدبر في الأشياء بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى.

الطريق الثاني: كتاب الله المسطور: وهو القرآن الكريم، فهو دليل التعامل مع كتاب الله المنظور "الكون"، وكتاب الله المنظور هو برهان الإيمان بكتاب الله المسطور، فكلا الكتابين لا غنى عنهما في الوصول إلى رب العالمين، وبلوغ سعادة الدارين.

في القرآن الكريم يتعرف المؤمن على أسماء الله وصفاته، وهي مدخل كبير إلى معرفة الله لا يسده غيره، فيرى العزة والحكمة، ويرى القوة والقهر والكبرياء، ويرى الهيمنة والعلم والإحاطة، ويرى الرحمة واللطف والخبرة، كل هذا يراه المؤمن فيزداد إيمانه بالله وقربه منه تعالى.

هذه المعرفة وذلك القرب من الله تعالى يؤهِّل المؤمن لفهم كتاب الله وقراءته قراءة مبنية على الدليل والبرهان، ومؤسسة على الفهم والبصيرة.

وفي القرآن الكريم يطالع المؤمن صفات الله تعالى؛ صفات الجلال، وصفات الكمال، ويلمس نعم الله وآياته في الأنفس والآفاق.

وفي القرآن الكريم يرى المؤمن يد الله- تعالى- تتحرك هنا وهناك تعمل بالقدر والتصريف والتداول والتغيير هنا وهناك.

وفي القرآن الكريم يرى قصص السابقين ومصارع الغابرين، وكيف أجرى الله فيهم سننه؛ الإهلاك لمن كفر، والنجاة لمن آمن وصدّق.

وفي القرآن الكريم يرى مشاهد يوم القيامة، مشاهد الجنة، ومشاهد النار، مشاهد الحساب والجزاء، ومشاهد البعث والنشور.

إلى غير ذلك من صور قرآنية تؤدي إلى معرفة الله تعالى، وتثمر في النفس خشية الحق جل جلاله والقرب منه.

هذان طريقان أساسيان في التعرف على الله تعالى، وسببان رئيسان مؤديان إلى القرب منه، وبغيرهما لن يستطيع المؤمن التعرف على الله؛ فضلاً عن القرب منه.

الأساس الرابع: التلاوة الصحيحة:
ومن الأسس المهمة في التعامل مع القرآن أن تتلوه تلاوة صحيحة، وليس وراء ذلك من البدهيات حبة خردل، فهي من الأساسيات الأولى التي لا يصح للمسلم، فضلاً عن الداعية أن يتعامل مع القرآن الكريم بدونها، وقد قال الناظم:
والأخذ بالتجويد حتم لازم           من لم يجوِّد القرآن آثم

بل في القرآن الكريم ما يدل على هذا الوجوب﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ (النمل).

وأحرى بالمسلم أن تكون له تلاوة يومية مع كتاب الله تعالى، ويجتهد أن يقرأ جزءًا يوميًّا، فيختم القرآن في كل شهر مرة، وإذا كان المسلم مطلوبًا منه أن يكون هذا حاله، فماذا يكون حال الداعية؟ لا شك أنه يجب عليه الاهتمام أضعاف اهتمام المسلم العادي، وما ينبغي للمسلم أن يكون إلا داعية بقدر علمه واستطاعته، وفي هذه القراءة المستمرة المنتظمة ما يعينه على إتقان القراءة الصحيحة وتدريب أعضاء النطق عنده على المرونة والتعود مما له دور كبير في تحقيق التلاوة الصحيحة.

ولقد تحدث القرآن عن بعض آداب التلاوة فقال﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) (الأعراف).

وقال﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) (النحل).

وقال﴿وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)(الإسراء).

وقال﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) (المزمل).

كما تحدث القرآن عن ثواب القراءة والتلاوة فقال﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) (فاطر).

ولقراءة القرآن الكريم قراءة متقنة بأحكام التجويد فوائد، يعرفها من عايش القراءة بأحكام التلاوة، نذكر منها:
1- استشعار حلاوة القرآن، والاستمتاع بالتلاوة.
2- تمييز القرآن عن غيره عند القراءة، رغم تميز القرآن بأمور أخرى.
3- القراءة بالتجويد دافع لمزيد من القراءة.
4- القراءة بالتجويد تساعد على تفسير القرآن وفهم معانيه ومراداته.
5- الترتيل المتقن يُشعر القارئ أن الله يكلمه مما يعين على الخشوع والخضوع.
6- الغنن والمدود وغيرها من أحكام، وحتى الحركات من نصب وفتح وكسر وجر تتناسب وتتسق مع المعاني المرادة من كلام الله تعالى، لمن يتأمل بعمق ويلاحظ بدقة.

وهذا كله يؤكد أن تعلم أحكام التجويد وترتيل القرآن ترتيلاً كما أمر الله تعالى من أهم أسس التعامل مع القرآن الكريم.

الأساس الخامس: الحفظ:
الحفظ هو أساس مترتب على حسن التلاوة وصحتها، وحفظ المسلمين للقرآن هو طرف من تحقيق وعد الله تعالى بحفظ هذا الكتاب ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) (الحجر).

وحفظ القرآن يجعل الداعية مستظهرًا للقرآن الكريم متمكنًا منه، ما يجعله طليقًا في الحديث، يحتج لأية قضية يتحدث فيه بما يتقافز على ذاكرته من كلام الله تعالى، فتتنادى له الآيات وتجتمع عنده عبر الحفظ المتقن والمراجعة الدائمة.

ولا يجوز لمن يحفظ شيئًا من كتاب الله أن ينساه، وإلا دخل في عداد المستهترين بكلام الله المهملين له؛ ولهذا روى أبو داوود بسنده عن سعد بن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلاَّ لقي الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة أجذم" (7).

وروى الترمذي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "عُرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعُرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أُوتيها رجل ثم نسيها" (8).

قال المناوي في فيض القدير: "لأنه إنما نشأ عن تشاغله عنها بلهو أو فضول، أو لاستخفافه بها وتهاونه بشأنها وعدم اكتراثه بأمرها، فيعظم ذنبه عند اللّه لاستهانة العبد له بإعراضه عن كلامه، وقال القرطبي: "من حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته فإذا أخلَّ بهاتيك المرتبة حتى خرج عنها ناسب أن يعاقب، فإن ترك تعاهد القرآن يفضي إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد، وقال أوتيها ولم يقل حفظها؛ لينبِّه على أنها كانت نعمةً عظيمةً أولاها اللّه إياه ليقوم بها ويشكر مولِّيها فكفرها، وفيه أن نسيان القرآن كبيرة ولو بعضًا منه، وهذا لا يناقضه خبر: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"؛ لأن المعدود هنا ذنب التفريط في محفوظه بعدم تعاهده ودرسه" (9).

واعلم أن بداية العلم هو حفظ القرآن، وكل آية تحفظها باب مفتوح إلى الله تعالى، وكل آية لا تحفظها أو أنسيتها باب مغلق، حال بينك وبين ربك.

ولقد يسَّر الله تعالى القرآن للذكر والحفظ، ويسَّر سبله وأسبابه لا سيما في هذا العصر، ما بين "شرائط كاسيت"، و"أسطوانات مدمجة"، و"شبكة عنكبوتية"؛ بحيث تستطيع أن تستمع إلى أية آية من كتاب الله، وبصوت أي شيخ في العالم له أشرطة أو له مصحف مسموع، وغير ذلك من وسائل، وكل هذا حجة علينا أمام الله تعالى.

ومن أهم الأسباب التي تعين على الحفظ:
- علو الهمة.
- إخلاص النية وتجريدها.
- صدق العزيمة.
- تقوى الله والقرب منه.
- الدعاء بأن يتم الله عليه النعمة ويمده بالعون والتأييد.
الأساس السادس: الفهم:
إذا قرأ المسلم القرآن، وأتقن القراءة، وحفظه وأتقن الحفظ، فأحرى به أن يكون له وقفات عقلية مع آياته وقصصه وقيمه وموازينه وتصوراته وأفكاره وأسسه ومبادئه وأهدافه ومقاصده؛ لأن التدبُّر نوع من الاهتمام بالقرآن الكريم.

وقد قال الله تعالى: "﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82). وقال أيضًا﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24) (محمد).

يقول الأستاذ سيد قطب: "ويتساءل في استنكار﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾؟ وتدبُّر القرآن يزيل الغشاوة ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرِّك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلِص الضمير، وينشئ حياةً للروح تنبض وتشرق وتستنير بها، ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟ فهي تحول بينها وبين القرآن، وبينها وبين النور، فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!".

ومن أدوات الفهم تعلُّم اللغة العربية بآدابها وعلومها؛ فهي الوسيلة لفهم مراد الله؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين، وكذلك فهم السنة النبوية ودراستها دراسة مستوعبة؛ لأنها مصدر لابد منه في فهم القرآن، فهي الشارحة لمعانيه، والمبيِّنة لمبهماته، والمفصلة لإجماله.

وفهم القرآن أو محاولة فهمه والتدبر فيه أمر ضروري للداعية حتى يبلِّغ بفهم وبصيرة وعلم وحكمة، وإلا أساء من حيث أراد الإحسان، وأُصيبت الدعوة على يديه بهزائم شديدة؛ ذلك أن الفهم هو مقصود كبير من القرآن الكريم، فإذا كان العمل هو لبُّ التعامل مع القرآن الكريم، فالفهم مفتاح ذلك العمل، وقد قال الله تعالى﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(29)" (ص).

وقد وضَّح الإمام ابن القيم قيمة الفهم وهو يشرح كتاب عمر في القضاء، فقال تحت عنوان:
"الفهم الصحيح نعمة" وقوله: "فافهم إذا أدلى إليك" صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادتَه اتباعُ الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى" (10). (إعلام الموقعين: الجزء الأول).

ولفهم القرآن درجات:
1- فهم لمعاني مفرداته الكريمة، وفيه يتعرَّف المسلم على معاني المفردات التي لا يفهمها حتى يتضح له المقصود، ويفهم المراد.

2- وفهم ما لا بد منه من سياق الكلام: وهو المعنى الكلي للقصة أو المشهد أو السورة، ويعتبر الفهم السابق جزءًا منه.

3- وهناك فهم دقيق وتأمل عميق للوصول إلى معرفة مقاصد القرآن الكريم ومراميه، وهو أثر ونتيجة للنوعين السابقين، إضافةً لطول التأمُّل والتدبر والإخلاص لله تعالى، وفيه يقف المسلم على أسرار وحكم وأبعاد ومرامي القرآن.

وهناك طريقة هامة جدًّا لمن أراد أن يفهم موضوعًا معينًا في القرآن الكريم؛ ألا وهي القراءة الموضوعية، بمعنى إذا أراد أن يتعرَّف على التقوى في القرآن، أو اليوم الآخر في القرآن، أو الرسول في القرآن، أو السيرة النبوية في القرآن، أو عقائد الآخرين في القرآن، أو المرأة في القرآن (11)، أو الإنسان في القرآن، أو أي موضوع آخر، فما عليه إلا أن يقرأ القرآن من أوله إلى آخره، ويبحث عن هذا الموضوع، ويركِّز عقله وفكره في البحث عنه، سواء باللفظ أو المعنى، وليحذر أن يتبع طريقة البحث باللفظ أو بالكلمة عن موضوع معين، فلن يحصل إلا على نتيجة شائهة لطبيعة معالجة القرآن لموضوع من الموضوعات.

وقد جربت هذه الطريقة بنفسي فوجدت عجبًا؛ جربتها في البحث عن المقاصد الجزئية أو التقصيد الجزئي في القرآن الكريم، وهو أحد مباحث رسالتي للدكتوراه، فوجدت بركات وفيوضات وفتوحات لا مثيل لها، ولا غرو فهي بركة القرآن وكرم القرآن متى أقبل عليه قارئه بيقين وثقة واستسلام.

الأساس السابع: العمل والتطبيق:
وهذا الأساس يعتبر ثمرةً للأسس السابقة جميعًا، ونتيجة طبيعية لها، وإلا تكون الشخصية غير سوية، فلا توجد نفس سوية محبة للناس والخير تُحَصِّل هذا الخير العميم ثم تحبسه على شخصها من دون الناس.

والقرآن الكريم يومئ إلى معنى التطبيق والتنفيذ وتفعيل هذا الكتاب في حياة الناس، ومن ذلك:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾ (النساء: من الآية 105).

﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾ (المائدة: من الآية 49).

﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأنعام: من الآية 155).

﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (101)(طه).

والمتأمل في القرآن الكريم يجد العمل الصالح مقرونًا دائمًا بالإيمان، وحسبنا أن نص قوله تعالى﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ مكرر في القرآن (48) مرةً.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم متخلقًا بالقرآن العظيم، روى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن سعيد بن هاشم بن عامر قال أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: "كان خلقه القرآن أما تقرأ القرآن قول الله عزَّ وجلَّ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (4) (12).

ومقتضى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان متمسكًا بآدابه وأوامره ونواهيه ومحاسنه، ويوضحه أن جميع ما قصَّ الله تعالى في كتابه من الأخلاق مما قصَّه من نبي أو ولي أو حث عليه أو ندب إليه كان  صلى الله عليه وسلم متخلقًا به، وكل ما نهى الله تعالى عنه فيه ونزَّه كان صلى الله عليه وسلم لا يحوم حوله.

وإذا تعلم المسلم كيفية التلاوة، وحفظ كتاب الله، وفهم مراميه ومقاصده، فإن الجلوس عن العمل به يعدُّ نفاقًا ومخالفةً واضحة، والله تعالى نعى كثيرًا على الناس هذا المعنى:
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44) (البقرة).

﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: من الآية 89)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3) (الصف).

وما قيمة العلم أو الحفظ بلا عمل، فلا خير في إيمان لا يتبعه عمل، ولا خير في عقيدة تثمر الجهاد من أجلها، والموت في سبيلها.

والعمل أو التطبيق له دوائر:
الأولى: دائرة فردية: وهي دائرة إصلاح النفس وتهذيبها وتزكيتها بما فرضه الله تعالى، وسنَّه النبي صلى الله عليه وسلم.

الثانية: دائرة أسرية: وهي مسئولية الإنسان عن أسرته: زوجًا وأبناءً، وأبًا وأمًّا، وإخوةً وأخوات، قال تعالى﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(32) (طه).

وقال أيضًا﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6) (التحريم).

الثالثة: دائرة مجتمعية: وهي الدعوة العامة في المجتمع عبر مؤسساته وهيئاته، والوزارات التي تهتم بالدعوة والمجتمع، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك.

الرابعة: دائرة عالمية: وفيها تتحقق شهادة الأمة الإسلامية على سائر الأمم، وتكون فيها الأمة مسئولة عن هداية هذا العالم، وتبليغ الدين له صافيًا نقيًّا كما نزل به القرآن، وجاءت به السنة النبوية.

الأساس الثامن: التبليغ:
وهو الأساس الأخير الذي تكتمل به دوائر التعامل مع القرآن الكريم، وبه تتحقق الربانية للمسلم، فلن يبلغ المسلم أن يكون ربانيًّا إلا إذا تعلم ما يجهل، وعمل بما تعلم، وعلَّم ما تعلم، قال تعالى:
﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: من الآية 79).

ولا يقبل الإسلام من المسلم- فضلا عن الداعية- أن يكون صالحًا في نفسه وكفى، بل لا بد أن يعمل الخير وينفع الغير؛ ولهذا قال تعالى﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) (الأعراف).

يقول الأستاذ سيد قطب في تفسير هذه الآية: "إن الصيغة اللفظية: (يمسكون)، تصور مدلولاً يكاد يُحس ويُرى، إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة، الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه، في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت، فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر، إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع! ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون "الواقع" هو الحكم في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكومًا بشريعة الله!

والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة؛ وإقامة الصلاة- أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة، والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونًا إلى الشعائر يعني مدلولاً معينًا. إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه، والإشارة إلى الإصلاح في الآية﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾..

يشير إلى هذه الحقيقة، حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين.

وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني، ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس؛ وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب؛ وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله..

إنه منهج متكامل. يقيم الحكم على أساس الكتاب؛ ويقيم القلب على أساس العبادة، ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب؛ فتصلح القلوب، وتصلح الحياة.

إنه منهج الله، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهج آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب!" (13).

وفي سياق آخر يرمي القرآن غير المصلحين بصفة "الإجرام"؛ فيقول تعالى﴿فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) (هود). فانظر كيف علق القرآن الكريم عدم الإهلاك بوجود المصلحين رغم وجود الظلم فيها.

وجوب الدعوة على كل مسلم:
وإذا كانت الصلاة فرضت بعد العام العاشر من البعثة، والزكاة والصيام والحج والجهاد بعد ذلك، فإن الدعوة مفروضة منذ اليوم الأول بمقتضى قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) (المدثر).

والعلماء لم يختلفوا في فرضية الدعوة ووجوبها، لكنهم اختلفوا هل هي فرض عين أم فرض كفاية، وإذا اخترنا بأقل ما قيل وهو فرض كفاية، فمعنى الكفاية أن تتحقق الكفاية أو الاكتفاء في الأمة، وهو غير متحقق لا سيما في هذا العصر؛ ولذلك فإنني أميل إلى أن الدعوة والتبليغ فرض عين على كل مسلم حسب استطاعته وقدرته، وفي حدود علمه على طريقة: "بلغوا عني ولو آية".

نماذج تبليغية من القرآن
أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم:
الله تعالى أمر نبيه بالبلاغ أمرًا مباشرًا مصحوبًا بأمور أخرى، فقال﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) (المائدة).

قال في الظلال: "إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملاً، وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابًا وهو يصدع بكلمة الحق، هذا، وإلا فما بلغ وما أدّى وما قام بواجب الرسالة، والله يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان الله له عاصمًا فماذا يملك له العباد المهازيل! إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة؛ وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء؛ وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل؛ فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء؛ ولا تراعي مواقع الرغبات؛ إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ. وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى، وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان؛ وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة!" (14).

ثانيًا: مؤمن آل ياسين:
وقصته معروفة في سورة يس، فرغم وجود رسولين، وتم تعزيزهم بثالث لم يثن هذا العددُ من الرسل أحدَ "الرجال" الذين جاءوا من أقصى المدينة دلالة على الجهد والسعي والدأب والمثابرة واستشعار تحمل المسئولية.

ورغم إعلان حالة "الطوارئ" في المجتمع﴿لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) (يس: من الآية 18). جاء ليأمر الناس باتباع المرسلين، وقد قصها الله تعالى علينا في هذه السورة فقال﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ (27).

ثالثًا: مؤمن آل فرعون:
وهي قصة معروفة في سورة غافر، ولا يخفى على أحد ما كان يفعله فرعون بالناس من تقتيل للأطفال واستحياء للنساء﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) (القصص).

قال تعالى في سورة غافر يحكي قصة هذا المؤمن في ظل هذه الأجواء الفرعونية والجبروت الطاغي﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33).

فرغم وجود نبي من الأنبياء كلَّفه الله بالتبليغ فإن هذا المؤمن أوجب على نفسه هذه المهمة وانتفض مدافعًا عن سيدنا موسى مستنكرًا إقدامهم على قتله.

كل هذه نماذج قرآنية وغيرها كثير تؤكد وجوب الدعوة حتى مع وجود الأنبياء والمرسلين، فما بالك بعد ذهاب الرسل، وبقاء الدعاة والمصلحين؟ لا شك أن الأمر أوجب والمسئولية أكبر.

وإذا كان للعمل والتطبيق دوائر ذكرناها سابقًا فإن للتبليغ أيضًا دوائر لا تخرج عما ذكرناه في التطبيق غير أننا هنا نقول إن دوائر التبليغ تشمل الأسرة والأقارب والجيران والمجتمع والدولة والأمة كلها والإنسانية جمعاء.
-----------------
* الهوامش:
(1) سنن الترمذي: أبواب فضائل القرآن، عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم. باب ما جاء في فضل القرآن، وقال أبو عيسى: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول. وفي حديث الحارث مقال".
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 519-520. مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى. 1420هـ- 2000م.
(3) سنن الترمذي: أبواب فضائل القرآن، عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم. باب منه. رقم (3080) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها. باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
(5) انظر ما ذكره رشيد رضا من مقاصد في: الوحي المحمدي: 105- 235. طبعة الزهراء للإعلام العربي.
(6) انظر كيف نتعامل مع القرآن العظيم: 73-125. دار الشروق. ط4. 1425هـ/2005م.
(7) سنن أبي داود: كتاب سجود القرآن. جماع أبواب فضائل القرآن- باب التشديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه.(8) سنن الترمذي: أبواب فضائل القرآن، عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم. بابٌ.
(9) فيض القدير: 4/414. دار الكتب العلمية. بيروت- لبنان. الطبعة الأولى. 1415 هـ- 1994م.
(10) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1/87. تحقيق: طه عبد الرءوف سعد. دار الجيل- بيروت، 1973م.
(11) لأستاذنا الدكتور صلاح الدين سلطان تجربة مع هذه الطريقة؛ حيث بحث عن المرأة في القرآن فأتى فيها بكلام ونتائج غير مسبوقة.
(12) مسند أحمد: 6/91. مؤسسة قرطبة القاهرة. بتعليقات شعيب الأرناؤوط، وقال المعلق: حديث صحيح.
(13) في ظلال القرآن: 3/1388-1389. دار الشروق. الطبعة العاشرة. 1402هـ- 1982م.
(14) في ظلال القرآن: 2/938.